العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية ::
الكاتب: د.محمد المهدي
شاع في السنوات الأخيرة موضوع العلاج بالقرآن واختلط فيه الحابل بالنابل، ومارسه أناس بسطاء ذوي نوايا طيبة (غالباً) وعلم بسيط, ومارسه أيضاً أناس مستغلون تستروا وراء قدسية القرآن ومارسوا خلفها كل الموبقات, وحدثت التباسات كثيرة (كما هو حادث في كثير من أمور حياتنا) منها أن القرآن شفاء للنفوس وبالتالي لا نحتاج لأي علاجات للأمراض النفسية غيره, ومنها أن المؤمنين لا يمرضون نفسياً وبالتالي فالمرضى النفسيين من هذا المنظور أشخاص ضعاف الإيمان وضعاف الإرادة...!!... ومنها أن كل الاضطرابات النفسية (وربما العضوية أيضاً) تحدث نتيجة المس الشيطاني وتأثيرات السحر والحسد.
والغريب أن هذه الأفكار والالتباسات لم تتسلل إلى عقول العامة والبسطاء فقط وإنما امتدت إلى عقول طبقات المتعلمين والمثقفين وربما العلماء, وأخطر ما في الأمر هو تستر كل هذا خلف الستار الديني المقدس وتلونه بالصفة الدينية ذات المكانة العالية لدى جموع الناس خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية, وذلك يجعل من يواجه هذا الركام أشبه بمن يمشي في أرض مليئة بالشوك والألغام.
ويصاحب ذلك محاولة استدعاء كل الوسائل العلاجية القديمة التي استخدمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد الصحابة وتطبيقها في موضعها أو في غير موضعها بشكل تعميمي، وإعطاء هذه الممارسات العلاجية صفة القداسة خاصة حين تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (حتى ولو كان النسب ضعيف) أو إلى أحد صحابته الكرام, وينظر إلى هذه الوسائل العلاجية على أنها جامعة مانعة وبالتالي فهي تغني عن أي تدخلات طبية حديثة فالحجامة تغني عن كل الممارسات التشخيصية والعلاجية, وحبة البركة تجب كل الأدوية المرصوصة على أرفف الصيدليات, وقراءة القرآن على المرضى النفسيين تمحو كل والاجتهادات البشرية في العلوم النفسية والطب النفسي.
والمتأمل للتاريخ الإسلامي لن يجد هذا الإلحاح وهذا الانتشار (وربما الهوس) حول هذه الأشياء في عهد النبوة أو في عهد الازدهار الحضاري الإسلامي, فلم نسمع أن العرب توافدوا جماعات إلى المدينة للتداوي من أمراضهم على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو على أيدي صحابته الكرام, ولم نسمع أن سيدنا عمر كان الناس يقفون على بابه بالآلاف ليقرأ عليهم كي يشفوا من أمراضهم, ولم نقرأ أن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه جلس في بيته يستقبل آلاف الناس ليرقيهم ويوزع عليهم كوباً من الماء (قد تفل فيه من ريقه) ليشربوه وكوباً من الزيت (قد تفل فيه أيضاً) ليدَهنوا به.
وكل ما حدث من ممارسات علاجية كانت اجتهادات في هذا العصر ولم تأخذ الشكل الجامع المانع, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يستخدم وسائل متنوعة في التداوي مثل عسل النحل, وحبة البركة, والحجامة وعصابة الرأس والرقية, ولم يدَع أن هذه الوسائل تلغي ما عداها أو ترقى على ما عداها وإنما كان يرسل المرضى إلى رفيدة الأنصارية تمرضهم أو إلى الحارث بن كلدة ليطببهم, ولو كانت الحجامة أو حبة البركة لها تأثير جامع مانع في كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسائل المتعددة (بلا حدود) ولو كانت قراءة القرآن (وحدها) على المرضى تشفي كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقية الوسائل.
والمتأمل للوسائل العلاجية المتعددة التي كان يتداوى بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو يداوي بها يجد أنها تشمل ما هو مادي وما هو روحي, لذلك فالادعاء بأن الوسائل الروحية فقط (ومنها قراءة القرآن) تشفي كل الأمراض البدنية والنفسية يصبح مجاوزاً للحقيقة ومجاوزاً للمنهج النبوي نفسه الذي يفتح الباب واسعاً لكل وسائل التداوي المعروفة في ذلك العصر والتي ستعرف في بقية العصور.
إذن فما يحدث الآن هو نوع من التفكير الاختزالي الاعتمادي السحري المستسهل والذي يكتفي بما قيل بديلاً لإعمال الفكر والبحث والتنقيب والتجربة والاجتهاد. فنحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نريد أن نعيش متطفلين على تراثنا الديني وعلى تراثنا الثقافي حتى لا نتعب أنفسنا في دراسة المشكلات الحياتية ومحاولة إيجاد حلول لها وهذا ينطبق على الأمراض وغيرها.
والعجيب أن الأطباء المسلمين العظام مثل ابن سينا وابن النفيس والرازي وغيرهم لم يسلكوا هذا المسلك الاتكالي السحري الاستسهالي, فلم نجدهم يبالغون في استدعاء النصوص الدينية لحل المشكلات الصحية التي واجهوها في مرضاهم, وإنما قاموا بالتشريح والتجريب والتحليل والتركيب, وكانوا من الملاحظين والوَصافين العظام في التاريخ للعديد من المظاهر المرضية, ولم نجدهم يبالغون في مسائل الإعجاز الطبي للقرآن (وهي حقيقة) أو يبالغون في تعميم وسائل علاجية بعينها ويعطوها قداسة دينية, وإنما كانت عيونهم فاحصة ونظراتهم ممتدة (بلا نهاية) وعقولهم تعمل كما أرادها الله أن تعمل, ولمْ يتستروا خلف لافتات دينية, ولم يكرسوا قيم السلبية والاعتمادية كما يفعل المعالجون بالقرآن الآن حين يطلبون من كل المرضى أن يستلقوا على ظهورهم ولا يفعلوا أي شئ فالمعالج سوف يفعل كل شئ بالنيابة عنهم لأن المعالج هنا يأخذ دور الأب المقدس والمريض هنا يأخذ دور الطفل الغرير الجاهل, وبالتالي فالمعالج والمريض يبتعدون عن الموقف الموضوعي الراشد في التعامل مع المرض ومع أنفسهم.
وهذا الخلل الفكري الذي يقسم المجتمع إلى آباء مقدسين وملهمين وأبناء أطفال جاهلين وسفهاء واعتمادين ينتقل من الموقف العلاجي السائد في مجتمعنا إلى مواقف حياتيه أكثر اتساعاً.